السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
- الحث على خشية الله تعالى –
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فإن تقوى الله تعالى مترتبة على الخوف منه وخشيته ، فمن خاف منه جل وعلا اتقى عذابه ورجا ثوابه ، ، ومما جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجه أبو عيسى الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنـزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة ". (سنن الترمذي ، رقم 2452 ، في صفة القيامة ، باب من خاف أدلج).
وقوله " أدلج" قال الحافظ ابن الأثير : الإْدلاج – مخفَّفًا – السير من أول الليل ، والإدِّلاج – مثقَّلا – السير من آخره ، والمراد بالإدْلاج ههنا : التشميرُ في أول الأمر ، فإن من سار من أول الليل كان جديرا ببلوغ المنـزل. (جامع الأصول 4/9).
ففي هذا الحديث حث على الخوف من الله تعالى وما أعده للعصاة من العذاب الأليم في الآخرة ، وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم التشمير في العمل الصالح والتقوى على الخوف من الله جل وعلا ، فمن خاف أسرع في العمل ، ومن أسرع في العمل الصالح بلغ الهدف الذي هو رضوان الله تعالى والجنة .
وفي بيان أهمية التقوى يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث " ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة " فالمتقون يشترون الجنة بعملهم الصالح ، الذي هو سبب لدخول الجنة ، وإنما يدخلونها برحمة من الله وفضل كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا : ولا أنت يارسول الله ، قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " .
ومن ذلك ما أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي رحمهم الله من حديث عائشة رضي الله عنهما قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : اللهم إني أسألك خيرها وخير مافيها وخير ما أُرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر مافيها وشر ما أرسلت به ، وإذا تخيَّلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سُرِّي عنه ، فعرفَتْ ذلك عائشة فسألته ؟ فقال : لعله ياعائشة كما قال قوم عاد (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا) [صحيح البخاري ، تفسير سورة الأحقاف ، صحيح مسلم رقم 899 في الاستسقاء ، سنن أبي داود رقم 5098 و 5099 ، في الأدب ، سنن الترمذي رقم 3254 تفسير سورة الأحقاف] [الأحقاف :24] فالسحاب والريح يُعدَّان شيئا معتادا عند الناس ، ولكنهما مصدر خوف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله جل وعلا ، خشية أن يكونا نذير عذاب يُنـزله الله تعالى على عباده كما أهلك بذلك بعض الأمم الكافرة السابقة ، وهذا يدل على كمال معرفته صلى الله عليه وسلم بربه وتمام خشيته منه، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إمام المتقين .
إن من قساوة القلب عدمَ تذكُّر عظمة الله تعالى وقوته وسعة ملكه ، ولقد أخبرنا الله سبحانه عن مصائر الأمم السابقة لنتعظ ونعتبر ، فنخشاه تعالى لنتقي عذابه ونرجوا ثوابه .
ومن أمثلة ماكان يتصف به الصحابة رضي الله عنهم من الخوف والخشية ما أخرجه أبو عبد الله البخاري رحمه الله من حديث أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري قال : قال لي عبد الله بن عمر : " هل تدري ما قال أبي لأبيك ؟ قال : قلت : لا ، قال : فإن أبي قال لأبيك : يا أبا موسى هل يسرك أن إسلامنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتنا معه وجهادنا معه وعملنا كله معه بَرَدَ لنا ، وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافا ، رأسا برأس ؟ فقال أبوك لأبي : لا والله ، قد جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا وصمنا ، وعملنا خيرا كثيرا ، وأسلم على أيدينا بشر كثير ، وإنا لنرجوا ذاك، قال أبي : لكني أنا والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك بَرَد لنا ، وأن كل شيء عملناه بعده نجونا منه كفافًا رأسا برأس ، فقلت: والله إن أباك كان خيرا من أبي " . (صحيح البخاري ، فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ).
فهذا مثل جليل في خشية الله تعالى يقدمه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وأثنى عليه كثيرا ، ولكن من كان بالله أعرف كان من الله أخوف كما قيل .
كما أن هذا الخبر مثال على لزوم التوازن بين مقامي الخوف والرجاء مع تغليب مقام الخوف، لأن تغليب الخوف أقوى في العصمة من الزلل والتفريط ، وقد كان هذا هو اعتقاد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، أما أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فإنه أيضا قد جمع بين الخوف والرجاء ، ولكنه غلَّب جانب الرجاء ، ولاشك أن عمر أعلم من أبي موسى وأفضل ، وقد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من المحَدَّثين أي الملهمين .
ويوافق ماجاء في قول عمر هذا مارُوي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال قُبيل موته: اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك ، يعني أنه كان حال حياته وصحته يجمع بين الخوف والرجاء ولكنه كان يغلب جانب الخوف ، فلما حضره الموت غلَّب جانب الرجاء ، وهذا قول سديد من رجل أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يبعث يوم القيامة أمام العلماء .
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أبو عبد الله البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : أنه أُتِي بطعام وكان صائما فقال: قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني ، فلم يوجد مايكفَّن به إلا بردة ، إن غُطي رأسه بدت رجلاه ، وإن غطي رجلاه بدا رأسه ، وقتل حمزة وهو خير مني، فلم يوجد مايكفن به إلا بردة ، ثم بُسط لنا من الدنيا مابسط ، - أو قال : أعطينا من الدنيا ما أعطينا – وقد خشيت أن يكون قد عُجِّلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا ، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام ". (جمع الفوائد رقم 7972).
فهذا موقف جليل من مواقف الخشية من الله جل وعلا ، فمع أن عبد الرحمن بن عوف رضي اللهه عنه من المبشرين بالجنة فإنه يبكي من خشية الله تعالى ، حتى ترك طعام الإفطار من شدة تأثره وخشيته ، مع أنه قد اشتهر بالورع الشديد عن المحرمات والشبهات ، ومع أنه من كبار المحسنين المنفقين في سبيل الله تعالى .
وهذه الحساسية الإيمانية مبعثها قوة استحضار عظمة الله تعالى والدار الآخرة ، وضآلةُ النظر إلى الدنيا ، وإدراكُ مابين الدارين من تزاحم .
وهذه المقارنة من عبد الرحمن بن عوف بينه وبين الذين ماتوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على شظف العيش وقلة الدنيا دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخشون من انفتاح الدنيا ، مع ماكانوا عليه من الحذر الشديد والورع البليغ .
فرضي الله عنهم ، ما أسمى عقولهم ! وما أبلغ إدراكهم ! وما أقوى إيمانهم !
جزا الله كاتبه خيرا
منقول للإستفادة